الصفحة الرئيسية » بحوث » مراعاة الدعاء

مراعاة الدعاء

مراعاة الدعاء

الدعاء أفضل العبادات و أنجح القربات و أسنى الطاعات

معنى الدعاء

قال الله تعالى:(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) )(غافر : 60 (

وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).

والدعاء يطلق بمعنى النداء المستلزم للاعتراف بالمنادى ، ويطلق على الطلب وقد جاء من كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – ما فيه صلاحية معنى الدعاء الذي في هذه الآية لما يلائم المعنيين في حديث النعمان بن بشير قال : سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم – يقول الدعاء هو العبادة ، ثم قرأ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين رواه الترمذي . وقال : هذا حديث حسن صحيح ، فإن قوله الدعاء هو العبادة يقتضي اتحاد الحقيقتين فإذا كان الدعاء هو العبادة كانت العبادة هي الدعاء لا محالة .

فضل الدعاء و أهميته

اعلم أيها الأخ المسلم: أن الدعاء أمره عند الله تعالى كبير، و أجره عظيم، و له ارتباط وثيق بإيمان المؤمن و بعبادته لله تعالى، و به يتحقق الإنسان بكمال العبودية لله رب العالمين، وله آثاره الكبرى و فوائده العظمى في الدنيا و الآخرة.

فينبغي للمسلم أن يواظب على الدعاء و يكثر منه، و لا يتساهل فيه و لا يتغافل أو يتكاسل عنه.

قال العلامة الحليمي رحمه الله تعالى في(المنهاج):

لا ينبغي للمسلم أن يُخْلِيَ يوماً و ليلةً عن الدعاء، لأن الزمن هو يوم و ليلة، و ما وراءهما تكرار، فإذا كان ترك الدعاء أصلاً يوجب الغضب – من الله تعالى – فأولى ما في تركه يوماً و ليلة أن يكون مكروهاً

و روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (( إذا فُتِحَ على العبد الدعاء فليدعُ ربَّه فإن الله يستجيب له)).

وروى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:((من فُتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، و ما سئل الله شيئاً أحبّ إليه من أن يُسأل العافية))

و قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (( إن الدعاء ينفع مما نزل، و مما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء)).

و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (( إن العبد لا يخطئه من الدعاء إحدى ثلاث : إما ذنب يغفر له و إما خير يسجل له و إما خير يدخر له)).

و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (( سلوا الله تعالى من فضله فإن الله تعالى يحب أن يسأل و أفضل العبادة انتظار الفرج)).

و قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( إني لا أحمل هم الإجابة و لكن هم الدعاء، فإذا أتممت الدعاء – علمت أن الإجابة معه).

قالوا: تشكو إليه ما ليس يخفى عليه

فقلت: ربي يرضى ذلّ العبيد لديه

و في (الحلية) عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (( و الذي نفسي بيده إنّ العبد ليدعو الله و هو عليه غضبان فيعرض عنه ، ثم يدعوه فيعرض عنه ، فيقول سبحانه لملائكته : أبى عبدي أن يدعوَ غيري فقد استحييت منه ، يدعوني و أعرض عنه أشهدكم أني قد استجبت له )).

و روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال :

قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (( من نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل)). ويوشك أي يسرع

شروط الدعاء و آدابه

لمَّا كان الدعاء صنفاً عظيماً من صنوف العبادة لله تعالى، نرى العلماء المتقدمين قد ذكروا للدعاء شروطاً و آداباً، و ربما عبَّر بعضهم بقوله: للدعاء أركانٌ وآداب.

روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: (( إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً ، و إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال تعالى:

( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات و اعملوا صالحاً) الآية

و قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم و اشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ).

ثم ذكر صلى الله عليه و سلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء يا رب، يا رب، و مطعمه حرام، و مشربه حرام، و ملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنّى يستجاب له؟).

شروط الدعاء

من شروطه ما ذكره الزركشي عن الحليمي ألا يسأل ممتنعا عقلا ولا عادة، ولا إباحة حرام ومنه الدعاء بالشر على غير مستحقه أو على بهيمة، وألا يكون له فيما يسأل غرض فاسد، كمالٍ وطول عمرٍ للتفاخر والاستعانة على الشهوات، وألا يكون على وجه الاختبار بل بمحض السؤال إذ العبد لا يختبر ربه، وألا يشتغل به عن فرض، وألا يستعظم حاجة لما في صحيح ابن حبان مرفوعاً إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإنه لا يتعاظم على الله شيء، وأن تكون الإجابة عنده أعظم من الرد لما أخرجه الترمذي والحاكم ادعوا الله وأنتم موقنون الإجابة.

ولا يضجر من تأخر الإجابة إذ المصلحة قد تكون في تأخرها ولأنَّ الدعاء عبادة واستكانة وذلك ينافيها

وفي الصحيحين يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول دعوت فلم يستجب لي أ

فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء، وألا يقتصر على دعاء أَلِفَهُ غيرُه مع الجهل بمعناه أو انصراف الهمة إلى لفظه لأنه حاكٍ لكلام غيره لا سائل

قال الحليمي نعم إن كان دعاءَ حسنا أو كان صاحب الدعاء ممن يتبرك بكلامه فاختاره لذلك وأحضر قلبه ووفَّاهُ من الإخلاص حقه.

ومن شروط الصحة أيضاً أن يعلم أن لا قادر على حاجته إلا الله وأن الوسائط في قبضته ومسخَّرة بتسخيره.

آداب الدعاء

و أما آدابه فقد ذكر الإمام الغزالي في الإحياء:

الأول :أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفةكيوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من ساعات الليل قال تعالى: وبالأسحار هم يستغفرون

الثاني: أن يغتنم الأحوال الشريفة

قال صلى الله عليه وآله وسلم: الدعاء بين الأذان والإقامة لا يُرَدُّ

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: الصائم لا تُرَدُّ دعوته

وبالحقيقة يرجع شرف الأوقات إلى شرف الحالات أيضاً إذ وقت السحر وقت صفاء القلب وإخلاصه وفراغه من المشوشات، ويوم عرفة ويوم الجمعة يوم اجتماع الهمم وتعاون القلوب على استدرار رحمة الله عز وجل، فهذا أحد أسباب شرف الأوقات سوى ما فيها من أسرار لا يطلع البشر عليها، وحالة السجود أيضاً أجدر بالإجابة

قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد فأكثروا فيه من الدعاء

و روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: (( إني نُهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجدا، فأما الركوع فعظِّموا فيه الرب تعالى، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء فإنه قَمِنٌ أن يستجاب لكم)).

الثالث: أن يدعو مستقبل القبلة ويرفع يديه

وقال سلمان: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن ربكم حيى كريم يستحى من عبيده إذا رفعوا أيديهم إليه أن يردها صفرا.

ثم ينبغي أن يمسح بها وجهه فى آخر الدعاء قال عمر رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مدَّ يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه .

قال الحافظ ابن حجر: وله شواهد منها حديث ابن عباس عند أبي داود وغيره ومجموعها يقضي بأنه حديث حسن

ولا يرفع بصره إلى السماء قال صلى الله عليه وآله وسلم: لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء أو لتخطفن أبصارهم

الرابع: خفض الصوت بين المخافتة والجهر
لما روى أن أبا موسى الأشعري قال: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما دنونا من المدينة كبّر وكبّر الناس ورفعوا أصواتهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا أيها الناس إن الذي تدعون ليس بأصم ولا غائب، إن الذي تدعون بينكم وبين أعناق ركابكم.

وقالت عائشة رضي الله عنها فى قوله عز وجل “ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها” أي بدعائك .

الخامس: أن لا يتكلف السجع فى الدعاء
فإن حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع، والتكلف لا يناسبه
قال صلى الله عليه وآله وسلم: سيكون قوماً يعتدون فى الدعاء
والأَوْلى أن لا يجاوز الدعوات المأثورة ، فإنه قد يعتدي في دعائه فيسأل ما لا تقتضيه مصلحته.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إياكم والسجع فى الدعاء حسب أحدكم أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول وعمل
ومر بعض السلف بقاصٍّ يدعو بسجع فقال له: أَعَلَى الله تبالغ؟

أشهد، لقد رأيت حبيبا العجمي يدعو وما يزيد على قوله: اللهم اجعلنا جيدين، اللهم لا تفضحنا يوم القيامة، اللهم وفِّقْنا للخير، والناس يدعون من كل ناحية وراءه. وكان يُعرف ببركة دعائه.

وقال بعضهم : أُدعُ بلسان الذلَّة والافتقار لا بلسان الفصاحة والانطلاق .
واعلم أن المراد بالسجع هو المتكلَّف من الكلام فإن ذلك لا يلائم الضراعة والذلة، وإلا ففي الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلمات متوازنة ولكنها غير متكلفة كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أسألك الأمن يوم الوعيد والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود والركع السجود الموفين بالعهود إنك رحيم ودود وإنك تفعل ما تريد.. وأمثال ذلك فليقتصر على المأثور من الدعوات أو ليلتمس بلسان التضرع والخشوع من غير سجع وتكلف فالتضرع هو المحبوب عند الله عز وجل

السادس: التضرع والخشوع والرغبة والرهبة
قال الله تعالى: إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً
وقال عز وجل: أدعوا ربكم تضرعاً وخفية

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أحب الله عبداً أبتلاه حتى يسمع تضرعه
السابع: أن يجزم الدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاءه فيه
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يقل أحدكم إذا دعا اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة فإنه لا مكره له

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله عز وجل لا يستجيب دعاء من قلب غافل

وقال سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه فإن الله عز وجل أجاب دعاء شر الخلق إبليس لعنه الله “قال ربى فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين”

الثامن: أن يلح فى الدعاء ويكرره ثلاثاً
قال ابن مسعود: كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا دعا، دعا ثلاثاً وإذا سأل ، سأل ثلاثاً.

وينبغي أن لا يستبطئ الإجابة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول قد دعوت فلم يستجب لي، فإذا دعوت فاسأل الله كثيراً فإنك تدعو كريماً
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إذا سأل أحدكم ربه مسألة فتعرَّف الإجابة فليقل الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ومن أبطأ عنه من ذلك فليقل الحمد لله على كل حال
التاسع: أن يفتح الدعاء بذكر الله عز وجل فلا يبدأ بالسؤال
قال سلمة بن الأكوع : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح الدعاء إلا استفتحه بقول “سبحان ربى العلى الأعلى الوهاب”
قال أبو سليمان الداراني رحمه الله:

من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم يسأله حاجته ثم يختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن الله عز وجل يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يدع ما بينهما
العاشر: هو الأدب الباطن وهو الأصل فى الإجابة
التوبة وِرد المظالم والإقبال على الله عز وجل بكنه الهمة، فذلك هو السبب القريب في الإجابة
قال مالك بن دينار :

أصاب الناس في بني إسرائيل قحط ، فرجوا مرارا فأوحى الله عز و جل إلى نبيهم أخبرهم أنكم تخرجون إلى بأبدان نجسة و ترفعون إلى أكفاً قد سَفَكْتكم بها الدماء و ملأتم بطونكم من الحرام الآن قد اشتد غضبي عليكم و لن تزدادوا مني إلا بعدا.
و قال الأوزاعي :

خرج الناس يستسقون فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله و أثنى عليه ثم قال

يا معشر من حضر ألستم مقرين بالإساءة ؟ فقالوا: اللهم نعم، فقال: اللهم إنا قد سمعناك تقول ( ما على المحسنين من سبيل) و قد أقررنا بالإساءة فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا ؟ اللهم فاغفر لنا و ارحمنا واسقنا؛ فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا.
ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس رضي الله عنه، فلما فرغ عمر من دعائه قال العباس:

اللهم إنه لم ينزلْ بلاء من السماء إلا بذنب ولم يُكشف إلا بتوبة وقد توجه بيَ القوم إليك لمكاني من نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا بالتوبة وأنت الراعي لا تهمل الضالة ولا تدع الكبير بدار مضيعة فقد ضرع الصغير ورق الكبير وارتفعت الأصوات بالشكوى وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم فأغثهم بغياثك قبل أن يقنطوا فيهلكوا، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

قال: فما تم كلامه حتى ارتفعت السماء مثل الجبال.

فوائد الدعاء

قال الإمام الطرطوشي في الدعاء المأثور

قد ذكر علماؤنا – رضوان الله عليهم – للدعاء فوائد منها:

أن الدعاء عبادة يثيب الله – سبحانه – عليها، و إن لم تقع الإجابة ، و منها:

أن الدعاء إشغال الهمة بذكر الحق – سبحانه و تعالى – و ذلك يوجب قيام الهيبة للحق عز وجل في القلوب ، والزيادات في الطاعات ، الانقطاع عن المعاصي . ولزوم الباب يستدعي الإذن في الدخول، ولهذا سبق المثل

(( من أدمن قرع الباب ولج))، و كان يقال الإذن في الدعاء خير من العبادة.

و فيه إظهار العبودية و الإقرار بالفقر و الحاجة ، و فيه تحقيق التوحيد ، و التبرؤ من الحول و القوة و الاعتراف بالربوبية ، و الافتقار إليه ، كما قيل: ((موقفُ ذليلٍ بين يدي عزيز)).

و كان يقال : إن الله خبأ أربعاً في أربع:

رضاه في طاعته فلا تحقرن شيئاً من أبواب البر تفعله

و خبأ سخطه في معاصيه فلا تحقرن شيئا من المعاصي تجتنبه

و خبأ ولايته في عباده فلا تحقرن أحدا من عباده، فإن الله لم يحقره إذ أودعه الإيمان

و خبأ إجابته في دعائه، فلا تحقرن شيئا من الدعاء تدعو به.

و قال ابن المعتمر: كرم الله تعالى لا ينقض حكمه، و لهذا يدعو العبد فلا يستجاب له.

قال الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين:

فما فائدة الدعاء والقضاء لا مَرَدَّ له

فاعلم أن من القضاء ردَّ البلاء بالدعاء، فالدعاء سبيل ردِّ البلاء واستجلاب الرحمة كما أن الترس سبب لرد السهم، والماء سبب لخروج النبات من الأرض فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان، وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله تعالى أن لا يحمل السلاح وقد قال تعالى خذوا حذركم

وأن لا يسقي الأرض بعد بث البذر فيقال إن سَبَقَ القضاء بالنبات نَبَتَ البذر وإن لم يسبقْ لم ينبتْ، بل رَبْطُ الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمح البصر أو هو أقرب، وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر، والذي قدَّر الخير قدَّره بسبب والذي قدَّر الشر قدَّر لدفعه سببا فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انْفَتَحَتْ بصيرته.

ثم في الدعاء من الفائدة ما ذكرناه في الذكر فإنه يستدعي حضور القلب مع الله وهو منتهى العبادات ولذلك قال صلى الله عليه وسلم الدعاء مخ العبادة

والغالب على الخلق أنه لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر الله عز وجل إلا عند إلمام حاجة وإرهاق ملمة فإن الإنسان إذا مسَّه الشر فذو دعاء عريض فالحاجة

تحوج إلى الدعاء والدعاء يرد القلب إلى الله عز وجل بالتضرع والاستكانة فيحصل به الذكر الذي هو أشرف العبادات ولذلك صار البلاء موكلاً بالأنبياء عليهم السلام ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل لأنه يرد القلب بالافتقار والتضرع إلى الله عز وجل ويمنع من نسيانه وأما الغِنَى فسبب للبطر في غالب الأمور فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى .

وسُئل العز بن عبد السلام هل يجوز أن يقال لا حاجة إلى الدعاء إذ لا يرد قضاء و لا قدرا، فأجاب:

من زعم عدم الحاجة إلى الدعاء فقد كذب و عصى و يلزمه أن يقول لا حاجة بنا إلى الإيمان و الطاعة لأن ما قضاه الله من الثواب و العقاب حاصل، و لا يدري هذا الأحمق أن مصالح الدارين قد رتَّبها الله تعالى على الأسباب

فإنْ بناه على أنَّ ما سبق له لا يغيِّره الدعاء لزمه أن لا يأكل و لا يشرب إذا جاع أو عطش، ولا يتداوى إذا مرض، وأن يلقى الكفار بلا سلاح ويقول في ذلك كله ما قضاه الله تعالى لا يرد و هذا لا يقوله مسلم و لا عاقل و ما أجرأ هذا الشخص على الجرأة بأذكار الشرع

وحاصله أن الإيمان بالقضاء لا يقتضي ترك الأسباب فالله تعالى قدَّر الأمر وقدَّر سببه .

وقال الإمام أبو القاسم القشيري رضي الله عنه:

اختلف الناس في أنَّ الأفضل الدعاء أم السكوت و الرضا

فمنهم من قال الدعاء عبادة للحديث السابق : الدعاء هو العبادة ، ولأن الدعاء إظهار الافتقار إلى الله تعالى ، وقالت طائفة السكوت والخمود تحت جريان الحكم أتم، والرضا بما سبق به القدر أولى، وقال قوم يكون صاحبَ دعاءٍ بلسانه، ورضاً بقلبه ليأتيَ بالأمرين جميعاً

قال القشيري، والأولى أن يقال الأوقات مختلفة : ففي بعض أحوال، الدعاء أفضل من السكوت، وهو الأدب ، وفي بعض الأحوال السكوت أفضل من الدعاء، وهو الأدب.

وقال شيخ الإسلام زكريا في شرح الرسالة:

فَرُبَّ شخصٍ في خلوةٍ يغلب عليه الدعاء وكمال التضرع والبكاء فملازمته لحالته أقرب لنيل مقصوده، وربما يغلب عليه توالي نعم ربه وعجزه عن شكرها، ويستحي بعجزه عن شكر ما توالى عليه من النعم أن يطلب زيادة على ما هو فيه، فالسكوت ولزوم الحياء أولى.

الدعاء المستجاب

روى أبو داود أنَّ النبي e قال – :” ثلاث دعوات مستجابات ،لا شكَّ فيهن : دعوة الوالد، ودعوة المسافر ، ودعوة المظلوم “.

وكان علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – يقول : دعاء المظلوم مستجابٌ على كل حال ، لأن المظلوم إنما يطلب من الله حقه ، والله – سبحانه – لا يمنع ذا حق حقه.

وكان يقال: لا يستجاب إلا لمخلصٍ أو مظلوم

وروى مسلم في صحيحه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ” من دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل “.

وهذا الحديث يفيد فائدة عظيمة لأنه إذا استجيب لك في أخيك لأنه غائبٌ عنك، رجوْنا أن يستجاب للملك فيك لأنك غائبٌ عنه.

وقال العلماء : أقربُ الدعاء إجابةً، دعاءُ الحال، أن يكون صاحبه مضطراً لا بد له أن يدعو لأجله ؛ فمن صدق اللَّجَأَ والاستغاثة أجيب في الحال ، قال الله – سبحانه – ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه )

وهذا تلقينٌ للمضطر أن لا يذهل عن الدعاء في حال الاضطرار، وإشارةٌ إلى أن دعاءه مستجاب.

قال عبد الله المكناسي: كنت عند الجنيد فأتت امرأة فقالت : ادع الله فإن ابناً لي قد ضاع ، فقال : اذهبي فاصبري ، فمضت ثم عادت ، فقالت مثل ذلك، ففعلت مثل ذلك ثلاث مرات، والجنيد يقول : اصبري

فقالت : عيل صبري، ولم يبقَ لي طاقة ، فادع الله لي .

قال الجنيد :إن كان كما قلت فاذهبي، فقد رجع ولدك، فمضت ثم عادت تشكر له .

فقيل للجنيد : بم عرفت ذلك ؟

فقال: قال الله تعالى: ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه )

والدليل على أنَّ من أقوى أسباب الإجابة اللَّجأَ والاضطرار حديثُ الثلاثة الذين أَوَوْا إلى الغار، فانحطت على فم الغار صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض : انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله تعالى فادعوا الله تعالى لعله يفرجها عنكم – رواه البخاري .

وروى أبو داود عن معاذ بن جبل – أن النبي e – قال :” ما من مسلم يَبيتُ على ذكرٍ طاهرٍ فَيَتَعارَّ من الليل ، فيسأل الله خيراً من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه ” والتعارُّ : السهر والتقلب على الفراش .

وقال جعفر بن محمد الصادق :

عجبت لمن بُلِيَ بالضُّر كيف يذهل عنه أن يقول:( إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) والله تعالى يقول ( فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر ).

وعجبت لمن بُلِيَ بالغم كيف يذهل أن يقول : ( لا إله إلا أنت سبحانك غني كنت من الظالمين ) والله تعالى يقول : ( فاستجبنا له ونجَّيْناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين )

وعجبت لمن خاف شيئاً كيف يذهل عنه أن يقول ) حسبي الله ونعم الوكيل ) والله تعالى يقول ( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسهم سوء ).

وعجبت لمن كُويِدَ في أمرٍ كيف يذهل عنه أن يقول : (وأفوِّضُ أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ) والله سبحانه وتعالى يقول ( فوقاه الله سيئات ما مكروا ) وعجبت لمن أنعم الله عليه بنعمةٍ خاف زوالها كيف يذهل عنه أن يقول :

( ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ).

وقال أبو بكر الدقاق، وهو أحد الفقهاء المالكيين المفتين : من أحبَّ أن يكثر ماله وولده ، ويبارك له في رزقه فليقل:” أستغفر الله إنه كان غفاراً ” في اليوم سبعين مرة ، قال الله – سبحانه – : ” استغفروا ربكم إنه كان غفاراً ، يرسل السماء عليكم مدراراً ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً ).

معنى الإجابة وسبب تخلُّفِها

وأما الإجابة، وهو مقصود الآية (( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان))

فإنما ينتظم الكلام فيها بذكر سؤال وجواب.

فإن قال قائل:

قال الله – سبحانه –: ( أجيب دعوة الداعي ) يدعو الداعي فلا يجاب دعاؤه .

والإجابة في اللغة، إعطاء ما سُئِل، يقال :أجابت بالمطر، وأجابت الأرض بالنبات فأعطت، قال زهير :

وغيثٍ من الوسمي حُوٍّ تلاعهُ أجابت روابيه الندى وهواطله

يعني أجابت هواطلُه روابيَه الندى حين سألها المطر فأعطته ذلك

وأجاب واستجاب بمعنى واحد.

قال كعب بن سعد الغنوي :

وداعٍ دعا يا من يجيبُ إلى النَّدى فلم يَسْتَجِبْهُ عند ذاك مجيب

سيِّما وقد تولَّى الحق سبحانه جواب السائلين بغير واسطة ، فقال لهم :

( إني قريب أجيب)

وهذا يقتضي عطفاً عليهم وتشريفاً لأقدارهم وتخصيصاً لهم، ألا ترى أنه أجاب المعاندين بالوسائط فقال: ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها )

فقل لهم: ( إنما علمها عند ربي ) على ما بيناه من تلك الأمثلة.

والجواب عن ذلك فيما يقال فى الآية : إنها مطلقة ، ثم قُيِّدَتْ بالمشيئة ، قال الله تعالى : ( فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ) فتقدير الكلام أجيب دعوة الداعي إن شئتُ، نظيرُهُ قوله – سبحانه ( من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها)

وكثير مِمَّنْ يريد حرث الدنيا ولا يؤْتاه ، فهذا خطاب مطلق ، ثم قُيِّدَ بالمشيئة فقال في موضع آخر : ( عجَّلْنا له فيها ما نشاء لمن نريد ).

فهذا هو الجواب الأصولي المعول عليه.

صيغ من الدعاء المأثور

عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله eسمع رجلا يقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد ،الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد .

فقال e:” والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب ،وإذا سُئِلَ به أعطى “.

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمع النبي e رجلاً وهو يقول:

يا ذا الجلال والإكرام، فقال e: قد استجيب لك فَسَلْ .

عن أنس رضي الله عنه قال: كان الرسول e يقول ” اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل ،وأعوذ بك من عذاب القبر ،وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات “وفي رواية ” وضلع وغلبة الرجال “.

ضلع الدين ” شدته وثقل حمله.

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ،عن النبي e أنه كان يدعو بهذا الدعاء ” اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري ،وما أنت أعلم به مني ،اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي ،اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير”.

وعن عائشة رضي الله عنها:
أن النبي e كان يقول في دعائه ” اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل ”

وعن أبي عمر رضي الله عنهما قال:كان من دعاء رسول الله e اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحوِّل عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك ”

عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله e يقول كان يقول :” اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهمَّ وعذاب القبر اللهم آتِ نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها “.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله e يقول :”اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر”.

وعن علي رضي الله عنه : إن مكاتباً جاءه فقال : إني عجزت عن كتابتي فأعَنِّي: قال ألا أعلمك كلمات علَّمَنيهن رسول الله e لو كان عليك مثل جبل صِيْر ديناً

أداه عنك ؟

قل اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك”

قال الترمذي : حديث حسن .

وعن عمران بن الحصين رضي الله عنهما أن النبي e علَّم أباه حصيناً يدعو بهما ” اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي ” قال الترمذي : حديث حسن .

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال :

دعا رسول الله e بدعاء كثيرٍ لم نحفظ منه شيئاً قلت: يا رسول الله دعوتَ بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئاً فقال: ” ألا أدلكم ما يجمع ذلك كله ؟ تقول اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد e ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه نبيك محمد e وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بالله ”

قال الترمذي : حديث حسن .

عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي e قال لها ” قولي اللهم إني أسالك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك خير ما سألك به عبدك ورسولك محمد e ، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد e ، وأسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته رشدا”

قال الحاكم أبو عبد الله هذا حديث صحيح.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وصلى الله علي سيدنا ونبيَّنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين

المصادر:

تفسير التحرير و التنوير للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور

كتاب الدعاء للشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله تعالى

إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رحمه الله تعالى

الدعاء المأثور /الإمام الطرطوشي

الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية – للإمام ابن علان رحمه الله تعالى