الصفحة الرئيسية » بحوث » توجيه العلماء لحديث إذا سمع أحدُكم النداء

توجيه العلماء لحديث إذا سمع أحدُكم النداء

بسم الله الرحمن الرحيم

بحوث في التوعية الفقهية

توجيه العلماء لحديث إذا سمع أحدُكم النداء

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .

وبعد ،،

يفتى البعض بجواز الأكل والشرب في رمضان بعد أذان الفجر أو أثنائه مستدلين ببعض النصوص التي أخطئوا فهمها والتي تعارضها صراحة أحاديث الصحيحين وأقوال عامة أهل العلم – فوقعوا في المحظور وأوقعوا ، وعمدة فتواهم حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه أبو داود في سننه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إذا سمع أحدكم النداء والإناء في يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه ” وكذلك استدلوا بما نقل عن الأعمش وإسحاق بن راهويه أنهما جوزا الأكل وغيره إلى طلوع الشمس .

وإليك أقوال أهل العلم التي توجه هذه النصوص التوجيه السليم دون الإفاضة حيث محلها المطولات .

والله نسأل أن يبصرنا جميعا بأمور ديننا وأن يهدينا سواء السبيل – آمين .

توطئة

ما أن يظلّنا الشهر الكريم حتى يطالعنا البعض في كل إطلالة بفتيا تنتشر بين الناس بجواز الأكل والشرب عند أذان الفجر في رمضان مخالفين بذلك ظاهر قول الله تعالى :

“وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.” ، وصريح الأحاديث الصحيحة وأقوال عامّة أهل العلم المصرّحة بالمنع وحرمة الأكل والشرب بدخول الفجر ، فيجرّؤون العامة على تقحِّم المحرَّم فيأثمون ويبوؤون من أفتاهم بالجواز ، مستدلّين بالحديث الذي رواه أبوداوود عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

” إذا سمع أحدكم النداء والإناء في يده فلا يضَعْه حتى يقضىَ حاجته منه.” وهو حديث إن صحّ فلابدّ من حمله على أذان بلال الذي ليس هو بأذان إمساك كما يقول الإمام البيهقى .

فأقول :

أولاً :

إن كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطالبنا بترك الشبهات للاستبراء لديننا ، ويحذّرُنا من الحوم حول حما الحرام خشية الوقوع فيه (” فمن اتّقَى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام ..) فكيف بتقحِّم الحرام ومعارضة الحديث الصحيح الذي لا يحتمل غيره وتركه إلى حديث مُتَكَلّمٌ فيه ومُتَعَيّنٌ حمله على غيره ، فأين إذاً دعوى الإتباع !!! وفى طالع الشمس ما يغنيك عن زحل .

ثانياً :

الصيام من الواجبات المُضَيّقة كما هو معلوم ، والواجب المُضَيّق ما يتساوى فيه فعل العبادة ووقتها ، على معنى أنك لا تستطيع أن تصوم مرّتين في اليوم ولا تستطيع إعادة صيامك إذا فسد ، كالصلاة مثلاً التي يتّسع الوقت لإيقاعها والزيادة عليها ، أو استدراكها بالإعادة إذا فسدت ، وعلى ذلك فيجب الاحتياط للصيام ما لا يُحتاط لغيره لعدم إمكان استدراك فساده كما ذكرنا ، فإن كان الخروج مُستحباً من خلاف من أوجب شيئاً خالفه الجمهور فيه ، فكيف بمخالفة عمل عامة أهل العلم وما عليه الأمة ، أليست الحيطة هنا وجوباً لا مستحبا ؟

ثالثاً :

لنقف قليلاً عند هاتين العبارتين في الحديث الآنف ، ( إذا سمع أحدُكم النداء) النداء هو الأذان ، والمُؤذّن هو أمين الوقت الذي يُشعر الناس بدخول الوقت ، فما هي وسيلة مؤذّن اليوم الضابطة للوقت المشعرة بدخوله ؟

أليست الساعة والتوقيت المتعارف عليه ؟ وهى كذلك في رمضان وغيره ، إذن المُؤْذِنُ بدخول الوقت ليس المؤذّن باجتهاده كما في السابق بل ساعته وساعتي وساعتك ، والسؤال من يحسم دخول الفجر في رمضان صوت المؤذّن أم عقرب الساعة ؟ وماذا لو اختلف المؤذّنون ، هذا قيل دقيقة وهذا بعدها وذاك بعد دقيقتين أو دقائق فما الذي يحسم ذلك أليست الساعة ؟

أما العبارة الثانية ( حتى يقضى حاجته منه ) أي الإناء ، أقول :الجواز هنا مُغَيّا بغاية وهى انقضاء حاجته ، والحكم مناط بانضباط العلة ، فما هو ضابط انقضاء حاجته ؟

ماذا لو كان نهماً ، فما هو ضابط الوقت حتى يقضى من الإناء حاجته ؟ فإن حدّدْتم وقتاً ، فَلِمَ لا يكون أقل أو أكثر مما حدّدتم ؟

اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا ، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

تفسير الآية

تفسير قوله تعالى (( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.))

قال الإمام الطبري في تفسيره :

” أولى التأويلَينِ بالآية ، التأويل الذي رُوى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” الخيط الأبيض ، بياض النهار ، والخيط الأسود ، سواد الليل .” وهو معروف في كلام العرب ، قال أبو داو الإيادى: ( فلمّا أضاءت لنا سُدْفةٌ ### ولاح من الصبح خيطٌ أنارا )

وأما الأخبار التي رُوِيَتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه شرب أو تسحّر ثم خرج إلى الصلاة ، فإنّه غير دافعٍ صحّة ما قلنا في ذلك ، لأنّه غير مستنكرٍ أن يكون شرب قبل الفجر ، ثم خرج إلى الصلاة ، إذ كانت الصلاة صلاة الفجر هي على عهده كانت تصلى بعد ما يطلع الفجر ، ويتبيّن طلوعه ، ويُؤَذّن لها قبل طلوعه .

وأمّا الخبر الذي رُوى عن حذيفة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتسحّر وأنا أرى مواقع النبل ، فإنه قد استُثْبِتَ فيه ، فقيل : أَبَعْدَ الصبح ؟ فلم يجبْ في ذلك بأنه كان بعد الصبح ، ولكنّه قال : هو الصبح ، وذلك من قوله ، يحتمل أن يكون معناه ، هو الصبح لقربه منه ، وإن لم يكن بعينه ، كما تقول العرب ، هذا فلان شبهاً ، وهى تشير إلى غير الذي سمّتْه ، فتقول : هو، هو تشبيهاً منها له به ، فكذلك قول حذيفة : هو الصبح : معناه ، هو الصبح شبهاً به وقرباً منه .

وقال ابن زيدٍ فى معنى الخيط الأبيض والأسود ، ما حدّثنى به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،

قال ابن زيد : ((حتى يتبّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.)) ، قال : الخيط الأبيض الذي يكون من تحت الليل يكشف الليل ، والأسود ، ما فوقه .

وأمّا قوله((من الفجر )) فإنّه تعالى ذكره يعنى ، حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود الذي هو من الفجر ، وليس ذلك هو جميع الفجر ، ولكنه إذا تبيّن لكم أيّها المؤمنون من الفجر ذلك الخيط الأبيض الذي يكون من تحت الليل الذي فوقه سواد الليل ، فمن حينئذٍ فصوموا ، ثم أتمّوا صيامكم من ذلك الليل ، وبمثل ما قلنا فى ذلك كان ابن زيدٍ يقول : حدّثنى يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد فى قوله ((من الفجر)) قال :

ذلك الخيط الأبيض هو من الفجر نسبةً إليه ، وليس الفجرَ كلَّه ، فإذا جاء هذا الخيط وهو أوَّلُه ، فقد حلّت الصلاةُ ، وحَرُمَ الطعام والشراب على الصائم .

وفى قوله تعالى ذكره : (( وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، ثمّ أتمّوا الصيام إلى الليل .)) ، أوضح الدلالة على خطأ قولِ من قال ، حلالٌ الأكلُ والشربُ لمن أراد الصوم إلى طلوع الشمس ، لأنّ الخيط الأبيض من الفجر يتبيّن عند ابتداء طلوع أوائل الفجر ، وقد جعل الله تعالى ذكره ذلك حدّاً لمن لزمه الصوم في الوقت الذي أباح له الأكل الشرب والمباشرة ، فمن زعم أنّ له أن يتجاوز ذلك الحدّ ، قيل له ، أرأيت إن أجاز له آخر ذلك ضحوة أو نصف النهار.

وقال الإمام الفخر الرازي في تفسيره الآية السابقة :

فيه مسائل :

المسألة الأولى :

روى أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال عدىُّ بن حاتم ، أخذت عقالين أبيض و أسود فجعلتُهما تحت وسادتي ، وكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما ، فلم يتبيّن ْ لي الأبيض من الأسود ، فلما أصبحتُ غدوتُ إلى رسول الله صلّى وسلّم ، فأخبرته فضحك ، وقال :

” إنّك لعريض القفا ، إنّما ذلك بياض النهار و سواد الليل .”، وإنما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنك لعريض القفا ، لأنّ ذلك مما يُستدل به على بلاهة الرجل ،

ونقول : يدل قطعاً على أنّه تعالى كنّى بذلك عن بياض أوّل النهار و سواد آخر الليل ، وفيه إشكال وهو أنّ بياض الصبح المشبّه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذب ، لأنه بياض مستطيل يشبه الخيط ، فأما الصبح الصادق فهو بياض مستدير في الأفق ، فكان يلزم بمقتضى هذه الآية أن يكون أول النهار من طلوع الصبح الكاذب ، وبالإجماع أنّه ليس كذلك .

وجوابه :

أنه لولا قوله تعالى في آخر الآية (( من الفجر)) لكان السؤال لازما، وذلك لأنّ الفجر إنّما يُسَمَّّى فجراُ لأنّه ينفجر منه النور ، وذلك إنما يحصل في الصبح الثاني ، لا في الصبح الأوّل ، فلمّا دلّت الآية على أنّ هذا الخيط الأبيض يجب أن يكون من الفجر ، علمنا أنّه ليس المراد منه الصبح الكاذب ، بل الصبح الصادق ،

فإن قيل، فكيف يُشَبّه الصبح الصادق بالخيط مع أنّ الصبح الصادق ليس بمستطيل والخيط مستطيل

فجوابه :

أنّ القدْر من البياض الذي يحرم هو أوّل الصبح الصادق ، وأوّل الصبح الصادق لا يكون منتشراً بل يكون صغيرا ً دقيقا، بل الفرق بينه وبين الصبح الكاذب أنّ الصبح الكاذب يطلع دقيقاً ، والصادق يبدو دقيقا ، ويرتفع مستطيلا ، فزال السؤال .

المسألة الثانية :

لا شك أن كلمة “حتى” لانتهاء الغاية ، فدلت هذه الآية على أنّ حِل المباشرة والأكل والشرب ينتهي عند طلوع الصبح .

المسألة الثالثة :

زعم الأعمش أنّه يحلّ الأكل والشرب والجماع بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس قياساً لأوّل النهار على آخره ، فكما أنّ آخرَه بغروب القرص، وجب أن يكون بطلوع القرص، وقال في الآية أنّ المراد بالخيط الأبيض و الخيط الأسود ، النهار والليل، ووجه الشبه ليس إلا في البياض والسواد ، فأمّا أن يكون التشبيه في الشكل مراداً فهذا غير جائز، لأنّ ظلمة الأفق حال طلوع الصبح لا يمكن تشبيهه بالخيط الأسود في الشكل البتة ، فثبت أنّ المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود هو النهار والليل ، ثم لمّا عن حقيقة الليل في قوله تعالى :

(( ثم أتمّوا الصيام إلى الليل )) وجدناها عبارة عن زمان غيبة الشمس بدليل أنّ الله تعالى سمَّى ما بعد المغرب ليلا ً مع بقاء الضوء فيه فثبت أن يكون الأمر في الطرف الأوّل من النهار كذلك ، فيكون قبل طلوع الشمس ليلا ، وأن لا يوجد النهار إلا عند طلوع القرص ، فهذا تقرير قول الأعمش ، ومن الناس من سلّم أنّ أوّل النهار إنّما يكون من طلوع الصبح ، فقاس عليه آخر النهار ، ومنهم من قال : لا يجوز الإفطار إلا بعد غروب الحمرة ، ومنهم من زاد عليه وقال : بل لا يجوز الإفطار إلا بطلوع الكواكب ، وهذه المذاهب قد انقرضت ، والفقهاء أجمعوا على بطلانها ، فلا فائدة في استقصاء الكلام فيها .

أقوال السادة العلماء

إتفق أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين على أن الصيام يدخل بطلوع الفجر أي أذان الفجر الثاني .

قال الإمام المرغينانى رحمه الله تعالى فى كتابه الهداية :

ووقت الصوم من حين طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس ، لقوله تعالى :(( وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط )) إلى أن قال ((ثم أتمّوا الصيام إلى الليل)) ، والخيطان بياض النهار وسواد الليل ( والصوم هو الإمساك عن الشرب والجماع نهاراً مع النيّة ) ، لأنّه في حقيقة اللغة :

هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع ، لورود الاستعمال فيه إلا أنّه زيد عليه النيّة في الشرع لتتميّزَ بها العبادة عن العادة ، واختصّ بالنهار لما تلونا ، ولأنّه لمّا تعذّر كان تعيين النهار أولى ليكون على خلاف العادة ، وعليه مبنى العبادة َ.

قال الإمام السرخسي الحنفي رحمه الله تعالى في كتابه المبسوط معرفاً الصوم بأنه :

” إمساك مخصوص وهو الكفُّ عن قضاء الشهوتين شهوة البطن وشهوة الفرج من شخص مخصوص وهو أن يكون مسلماً طاهراٍ من الحيض والنفاس في وقت مخصوص وهو ما بعد طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس .”

وقال في موضع آخر من كتابه :” وجعل أول الوقت من حين يطلع الفجر بقوله تعالى ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم ) الآية قال أبو عبيد الخيط الأبيض الصبح الصادق والخيط اللون .”

وقال الإمام القدوري الحنفي رحمه الله تعالى في مختصره المسمى بـ الكتاب :

” وَوَقتُ الصوم من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس .”

وعلق الإمام الغنيمي الحنفي رحمه الله تعالى في كتابه اللباب شرح الكتاب :

“ووقت الصوم حين طلوع الفجر الثاني الذي يقال له الصادق ، إلى غروب الشمس ، لقوله تعالى : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) إلى أن قال : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) والخَيْطَان : بياض النهار وسواد الليل .”

قال الإمام ابن رشد رحمه الله في بداية المجتهد :

وأمّا التي تتعلّق بزمان الإمساك ، فإنّهم اتفقوا على أنّ آخره غيبوبة الشمس لقوله تعالى : (( ثم أتمّوا الصيام إلى الليل )) واختلفوا في أوّله : فقال الجمهور : هو طلوع الفجر الثاني المستطيل الأبيض ، لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، أعنى حدَّه بالمستطيل ، ولظاهر قوله تعالى :

(( حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض.)) الآية ، وشذّت فرقةٌ ، فقالوا ، هو الأحمر الذي يكون بعد الأبيض ، وهو نظير الشفق الأحمر ، وهو مروِىٌّ عن أبى حنيفة ، وابن مسعود .

وسبب هذا الخلاف ، هو اختلاف الآثار في ذلك ، واشتراك اسم الفجر ، أعنى أنّه يقال على الأبيض و الأحمر.

وأمّا الآثار التى احتجّوا بها ، فمنها

حديث زِرِّ ، عن حذيفة ، قال ” تسحّرْتُ مع النبي صلى الله عليه وسلّم ، ولو أشاء أن أقول ، هو النهار ، إلا أنّ الشمس لم تطلع .”

وخرّج أبوداوود عن قيس بن طلق ،عن أبيه ، أنّه – عليه الصلاة والسلام قال :

” كلوا واشربوا ولا يَهيدَنّكم الساطع المصعَد ، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر .” قال أبوداوود : هذا ما تفرّد به أهل اليمامة ، وهذا شذوذ ، فإنّ قوله تعالى : (( حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض)) الآية ، نصٌّ في ذلك ، أو كالنّصّ ، والذين رأوا أنّه الفجر الأبيض المستطيل هم الجمهور، وهو المعتمد .

وقال القاضي أبو محمد بن عطية الأندلسي المالكي رحمه الله تعالى في كتابه الوجيز في تفسير الكتاب العزيز :

” واختلف في الحد الذي بتَبَيّنِهِ يجب الإمساكُ، فقال الجمهور – وبه أخذ الناس ومضت عليه الأمصار والأعصار ووردت به الأحاديث الصحاح – ذلك الفجر المعترض الآخذ في الأفق يمنه ويسره ، فبطلوع أوله في الأفق يجب الإمساك ، وهو مقتضى حديث ابن مسعود وسمرة بن جندب .”

وقال الإمام الخرشي المالكي رحمه الله تعالى في حاشيته على مختصر الإمام خليل معرفا الصوم بأنه : “الإمساك عن شهوتي الفم والفرج أو ما يقوم مقامهما مخالفة للهوى في طاعة المولى في جميع أجزاء النهار بنية قبل الفجر .”

وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه المجموع :

“هذا الذي ذكرناه من الدخول في الصوم بطلوع الفجر وتحريم الطعام والشراب والجماع به هو مذهبُنا ومذهبُ أبي حنيفة ومالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم قال ابن المنذر وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعلماء الأمصار قال وبه نقول .

وروى عن حذيفة أنه لما طلع الفجر تسحّر ثم صلّى ، ورُوِىَ معناه عن ابن مسعود وقال مسروق لم يكونوا يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق قال : وكان إسحاق يميل إلى القول الأول من غير أن يطعن على الآخرين قال إسحاق :

ولا قضاء علي من أكل في الوقت الذي قال هؤلاء هذا كلام ابن المنذر . وحكي أصحابنا عن الأعمش واسحق بن راهويه أنهما جوَّزا الأكل وغيره إلى طلوع الشمس ولا أظنه يصح عنهما .

واحتج أصحابنا والجمهور على هؤلاء بالأحاديث الصحيحة المشهورة المتظاهرة منها حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال لما نزلت ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) قلت : يا رسول الله إني أجعل تحت وسادتي عقالين عقالا أبيض وعقالا أسود أعرف الليل من النهار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار ”

رواه البخاري ومسلم .

وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال أُنزلت ( وكلوا واشربوا حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) ولم ينزلْ من الفجر فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله تعالى من الفجر فعلموا أنه يعني به الليل من النهار ” . رواه البخاري ومسلم .

وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : ” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغرّنّكُم أذانُ بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير ” رواه مسلم .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” لا يمنعن أحدكم – أو أحد منكم – أذان بلال من سحوره فانه يؤذن أو ينادي بليل ليرجع قائمكم وينبه نائمكم ” .

رواه البخاري ومسلم .” اهـ

وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي رحمه الله في كتابه المغنى :

“والصوم هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس وروي معنى ذلك عن عمر وابن عباس وبه قال عطاء وعوامُّ أهل العلم ، وروي عن علي رضي الله عنه أنه لما صلى الفجر قال :

الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود . وعن ابن مسعود نحوه ، وقال مسروق : لم يكونوا يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق ، وهذا قول الأعمش .

ولنا ( أي دليلنا ) قول الله تعالى : ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) يعني بياض النهار من سواد الليل وهذا يحصل بطلوع الفجر قال ابن عبد البر في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ”

إن بلال يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ” دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح وأن السحور لا يكون إلا قبل الفجر وهذا إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش وحده فشذّ ولم يعرِّجْ أحدٌ على قوله ، والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، قال هذا قول جماعة علماء المسلمين .” اهـ

ولقد لخص شيخنا د. محمد حسن هيتو حفظه الله تعالى أقوال الأئمة في كتابه فقه الصيام قائلا

“اتفق الفقهاء على أن الصيام يدخل بطلوع الفجر الثاني ، وهو الفجر الصادق ، وهو الزمن الذي يؤذن فيه الأذان الثاني في عرفنا اليوم ، فبمجرد الأذان يصير الإنسان متلبساً بالصيام ، فيحرم عليه الطعام ، والشراب ، وكل منافٍ للصيام مما يجب الإمساك عنه ، وهذا ما عليه العمل في مختلف أمصار الإسلام على كرِّ الأعصار ، وهو مذهب أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وجماهير العلماء من الصحابة ، والتابعين فمَنْ بعدَهم .

قال ابن المنذر : وبه قال عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وعلماء الأمصار ، قال : وبه نقول،

والدليل على هذا ما رواه البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال :

لما نزلت (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) قلت : يا رسول الله ، إني أجعل تحت وسادتي عقالين ، عقالا أبيض وعقالا أسود ، أعرف الليل من النهار ، فقال رسول الله صلى اله عليه وسلم ” إن وسادك لعريض ، إنما هو سواد الليل ، وبياض النهار ” .

وما رواه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره ، فإنه يؤذن ، أو قال : ينادي – بليل ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم ، وليس الفجر أن يقول : هكذا – وجمع بعض الرواة كفيه – حتى يقول هذا ، ومد أصبعيه السبابتين .”

وما رواه البخاري ، ومسلم ، ومالك ، والنسائي عن عائشة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :” إن بلال يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم ”

وفي رواية عنها وعن ابن عمر : أن بلال كان يؤذن بليل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن مكتوم ، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر “.

وفي رواية للبخاري ، ومسلم ، ومالك ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :” إن بلال ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم ، قال : وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى ، لا ينادي حتى يقال له : أصبحت ، أصبحت .”

وروى النسائي عن أنيسة بنت حبيب الأنصارية رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إذا أذّن ابن أم مكتوم فلا تأكلوا ولا تشربوا ، وإذا أذّن بلال كلوا واشربوا ” .

فهذه الأحاديث كلها صحيحة صريحة في وجوب الامتناع عن الطعام بسماع النداء للصلاة ، فإذا سمع الصائم الأذان ، وجب عليه أن يترك طعامه وشرابه ، فإن استمر في طعامه فهو مفطر ، ويلزمه ما يلزم المفطر من الأحكام ، وإن كان في فمه لقمة طعام ، فإنه لا يجوز له أن يبتلعها ، أو جرعة ماء فإنه لا يجوز له أن يسيغها ، بل يجب عليه أن يقذفها ، وإلا اعتبر مفطراً فليتنبه المسلمون لهذا ، وليحرصوا عليه .اهـ

هذه بعض أقوال العلماء في بداية الصوم ومن أراد الاستزادة فعليه الرجوع إلى كتب المذاهب وكتب التفسير فسيسجد فيها بغيته .

توجيه العلماء لحديث أبى داوود

أما فيما يتعلق بشرح الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

” إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضى حاجته منه ” فقد علق الإمام الخطابي رحمه الله في كتابه معالم السنن شرح سنن أبي داود قائلا :

هذا على قوله أن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، أو يكون معناه إن سمع الأذان وهو يشك في الصبح مثلُ أن يكون السماء متغيِّمة فلا يقع له العلم بأذانه أن الفجر قد طلع لعلمه أن دلائل الفجر معدومة ولو ظهرت للمؤذن لظهرت له أيضاً ، فإذا علم انفجار الصبح فلا حاجة إلى أوان الصبح أذان الصارخ لأنه مأمور بأن يمسك عن الطعام والشراب إذا تبين له الخيط الأبيض من الخيط السود من الفجر .”اهـ

وأخرج البيهقى في السنن الكبرى عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعْه حتى يقضِىَ حاجته منه ، قال ، وحدّثنا حمّاد بن سلمة عن عمار بن أبى عمّار عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مثلُه ،

قال الرياحى في روايته وزاد ، وكان المؤذنون يؤذّنون إذا بزغ الفجر وكذلك رواه غيرُه عن حمّاد ، وهذا إن صحّ فهو محمول عند عوامِّ أهل العلم على أنّه صلّى الله عليه وسلّم عَلِمَ أنّ المنادى كان ينادى قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر ،وقول الراوي ، وكان المؤذّنون يؤذّنون إذا بزغ ، يحتمل خبراً منقطعاً ممّن دون أبى هريرة ، أو يكون خبراً عن الأذان الثاني ، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم :

” إذا سمع أحدُكم النداء والإناء على يده ..” ، خبراً عن النداء الأوّل ، ليكون موافقاً لما رواه عبد الله بن مسعود ، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : ” لا يمنعَنَّ أحداً منكم أذان بلال من سحوره ، فإنما ينادى ليوقظَ نائمَكم و يرجع قائمكم – قال جرير في حديثه ، وليس أن يقول هكذا ، ولكن يقول هكذا الفجر هو المعترض وليس المستطيل – رواه في الصحيح عن إسحاق بن إبراهيم ( هو ابن راهويه ) وأخرجه البخاري من وجه آخر عن التيمى .

وعن ابن عمر وعائشة رضى الله عنهما ، قالا ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :

” إنّ بلالاً يؤذّن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أمّ مكتوم .” رواه البخاري في الصحيح عن عبيد بن إسماعيل ، ورواه مسلمٌ عن أبى بكر بن أبى شيبة ، كلاهما عن أبى أسامة .

وجاء في كتاب بذل المجهود شرح سنن أبي داود للإمام السهارنفوري رحمه الله تعالى في تعليقه على حديث أبي داود السابق : قال في الدرجات :

هذا يحمل على قوله ” إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ” وقال البيهقي : هذا أرجح ، فإنه محمول عند عوام أهل العلم على أنه صلى الله عليه وسلم علم أن المنادِي كان ينادي قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربُه قبل طلوع الفجر.” ،

وقال القاري :” وهذا إذا علم أو ظن عدم الطلوع “، وقال ابن المُلْك :” هذا إذا لم يعلم طلوع الصبح ، أما إذا علم أنه طلع أو شك فيه فلا ” ، قلت : والأَوْلَى في تأويل هذا الحديث عندي أن يقال أن هذا القول أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تحريم الأكل متعلق بالفجر لا بالأذان ، فإن المؤذن قد يبادر بالأذان قبل الفجر فلا عبرة بالأذان إذا لم يعلم طلوع الفجر . اهـ

وقال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في كتابه فيض القدير شرح جامع الصغير في تعليقه على حديث أبي داود السابق : ” بأن يشرب منه كفايته ما لم يتحققْ طلوع الفجر أو يظنه ظنا يقرب منه ، وما ذكر منه أن المراد به أذان الصبح ما جزم به الرافعي فقال :

” أراد أذان بلال الأول بدليل إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم .”

وقال الشيخ محمود خطابي السبكي شيخ الأزهر رحمه الله تعالى في كتابه المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود معلقاً على الحديث السابق : ” قوله إذا سمع أحدكم النداء الخ … أي الأذان الأول للصبح وهو أذان بلال فإنه كان يؤذن قبل طلوع الفجر ليرجع القائم ويتنبّهُ النائم كما تقدم . وعلى هذا فقوله ( فلا يضعْه حتى يقضي حاجته منه ) ظاهر لأن الوقت الذي يحرم به الطعام والشراب لم يجئ .

وقال الإمام الحازمي في كتابه الاعتبار في الناسخ والمنسوخ في تعليقه على حديث حذيفة السابق

ولقد نقلنا قول الإمام النووي في المجموع في تعليقه على تجويز الأعمش وإسحاق بن راهويه الأكل وغيره إلى طلوع الشمس حيث قال : ولا أظنه يصح عنهما .

كما مرّ معنا قول الإمام ابن عبد البر الذي نقله الإمام ابن قدامه في المغني أن الأعمش شذّ بهذا القول

ونختم بقول شيخنا د. محمد حسن هيتو حفظه الله تعالى في كتابه فقه الصيام معلقاً على حديث أبي داود السابق :

وأما ما يقوله بعض الناس من أن الإنسان إذا كان على طعام وسمع النداء ، فإنه يتمه حتى يشبع ، أو كان يريد الشرب ، والكأس في يده ، فإنه يشرب حتى يرتوي ، فإنه كلام مخالف لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي ذكرناها ، ومن فعل هذا فقد أفطر .

وأما ما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده ، فلا يدعْه حتى يقضي حاجته “.

فقد قال البيهقي عقب روايته : وهذا إن صح محمول عند عوام أهل العلم على أنه صلى الله عليه وسلم علم أنه ينادي قبل طلوع الفجر ، بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر ، ليكون موافقاً لحديث عائشة وابن عمر ، رضي الله عنهم ، قال :

وعلى هذا تتفق الأخبار .وهذا الذي قاله البيهقي هو الذي فهمه من قبله ، وأقره عليه من أتى بعده ، وهو الذي اتفق عليه أهل العلم لصحة الأحاديث السابقة وصراحتها في أن الطعام لا يجوز بعد المناداة والأذان للفجر .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم